في آخر يوم من شهر آذار 1930، وبينما كانت القدس تنتقل من الشتاء إلى الربيع، بدأت خدمة البث الإذاعي الخاص بفلسطين إرسالها من جهاز البث الجديد في رام الله، مع وجود مكاتب البث قرب مركز مدينة القدس. حضر البث الافتتاحي مجموعة من ذوي المكانة الرفيعة ورموز حكومة الانتداب، والمندوب السامي آرثر واكهوب -وهو الحاكم العام لفلسطين الانتدابية والممثل الأعلى للسلطات البريطانية هناك- الذي قدم بنفسه أحد الخطابات الافتتاحية. وقال في الخطاب الذي أعيد نشره لاحقاً بشكل كامل في جريدة البالستاين بوست (Palestine Post) كجزء من مقال متعدد الأجزاء بعنوان "بدأ بثّ فلسطين"، "لسنوات عدة تأثرت جداً بالفوائد التي يمكن لإذاعة مدارة بشكل جيد أن تجلبها لعقل وروح أي شعب يتمتع بمزاياها". وأضاف أنه في فلسطين فإن "الإذاعة ستدار لما فيه خير كل طبقات الفئات المجتمعية المختلفة."(1) تلائم تعليقات واكهوب حول هذه المزايا بشكل دقيق الفهم الأوروبي منتصف الثلاثينيات من القرن العشرين بخصوص البث الإذاعي، وتعكس بشكل محدد المفاهيم البيروقراطية للإذاعة كمصدر للمنفعة العامة التي يقصد بها إفادة المستمعين. لكن وكما يشير تعليقه بخصوص "كل الفئات المجتمعية"، فإن خطابه لم يكن موجهاً لمجموعة من الإذاعيين الأوروبيين أو البيروقراطيين، لكن جاءت التغطية في سياق سياسي مشحون جداً في فلسطين الانتدابية- وهو سياق تأخذ فيه متابعة الإذاعة حيزاً كبيراً من اهتمام الناس، كما تشير تغطية جريدة البالستين بوست
إذاعة الانتداب: دعاية استعمارية أم مؤسسة وطنية؟
بحلول منتصف الثلاثينيات، كان هناك في الشرق عدد من المحطات الإذاعية المدارة حكومياً بما فيها إذاعة دمشق، وخدمة الإذاعة المصرية الرسمية (إذاعة القاهرة)، وإذاعة الشرق في بيروت، وإذاعة فلسطين، وكذلك بشكل متقطع إذاعة الموصل. وإلى المدى الذي درس فيه الباحثون هذه الإذاعات، فإنهم لم يأخذوها بعين الاعتبار كوسائط للدعاية الحكومية- ووسائط فاشلة في ذلك، فهم يفترضون أن التكلفة العالية لأجهزة المذياع، بالإضافة إلى الفهم الشعبي لما "يشوب" هذه الإذاعات كناطقة باسم الاستعمار، كانت عوامل لم تشجع معظم الناس على مجرد ضبط مؤشر المذياع عليها. لكن الأدلة التاريخية تقول عكس هذا. فوثائق هذه الحقبة والذكريات الشخصية وصحف فلسطين كلها تبين أن الناس كانوا يستمعون للإذاعات، وأن الإذاعة الفلسطينية، وامتداداً لها غيرها من الإذاعات قد أصبحت جزءاً متكاملاً من الحياة الشرقية، وبشكل خاص في الفضاءات المدنية. ورغم أن حكومة الانتداب اتخذت إجراءات مشددة بخصوص بث الأخبار، فإن الطاقم المحلي الذي تم توظيفه في الإذاعة الفلسطينية تمتع بإدارة ذاتية كبيرة في مجال تطوير البرامج الموسيقية والمسرحية والأخلاقية وبرامج الأطفال والنساء، والتي شكلت 70-80 بالمائة من ساعات البث. لقد عكست هذه البرامج التطورات الثقافية المعززة في فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى والمنتشرة عبر العالم العربي: الاختلافات في التأليف الموسيقي، شعبية أنغام الرقص "الأجنبية" مثل التانغو وفوكس تروت (خطوة الثعلب)، الأشكال المسرحية الناشئة، التربويات الجديدة، النقاشات حول الثقافة والأخلاق والهوية الوطنية. عندما يشغِّل المستمعون المذياع فإنهم يستمعون إلى أصوات حداثة مدينية معينة، تتضمن محاضرين محليين بارزين، واحتفالات إقليمية شهيرة، وتنويعات جديدة على تقسيمات مألوفة، ونساء من عائلات النخبة المحلية يتناقشن حول "المرأة العربية" أو "المرأة المسلمة خلال رمضان". دون بذل جهد شاق لتقديم دليل حول دور الإذاعة في إنتاج الهوية الوطنية، فإن هذا العمل يشير إلى تأثير الإذاعة الفلسطينية في إعطاء الفلسطينيين تخيلاً عن أي نوع من الأشخاص بالمعنى الثقافي يجب أن يكونوا.
ميلاد الإذاعة الفلسطينية
لماذا اهتم مسئولو حكومة الانتداب البريطاني بتأسيس محطة إذاعة في فلسطين في بداية الثلاثينيات؟ لقد عكس قرارهم توجهاً أوسع أصبح واضحاً عبر العالم: التحرك باتجاه تحكم الدول بالترددات وأجهزة البث، والفكرة الناشئة بخصوص الإذاعة كمنفعة عامة نادرة، والأمران يتقاطعان مع مسئولية بريطانيا المزعومة لقيادة المناطق المنتدبة عليها نحو الحكم الذاتي. لقد شهدت بداية الثلاثينيات لحظة حاسمة في تطور البث الإذاعي: إنشاء المحطات الإذاعية التي تديرها الدولة عبر أوروبا والمستعمرات الأوروبية حول العالم.(5) لقد شكلت بداية محطات الإذاعة الحكومية نهاية "حقبة ذهبية" للإذاعات اللاّسلكية الخاصة بالهواة.(6)
لكن وفي نهاية الأمر فإنّ الحرية المطلقة التي شجعت أصحاب البث الإذاعي من الهواة أساساً قد أدت إلى تقويض عملهم في نهاية الأمر، فشعبية بث الهواة وسهولته أدت إلى ازدحام الموجات الإذاعية، وأصبح تداخل موجات البث بشكل متزايد مشكلة عامة، تزعج بث الهواة وتثير قلق الحكومات التي تستخدم البث الإذاعي للاتصالات العسكرية. وبالإضافة إلى الاتصالات العسكرية فقد أصبحت الحكومات تدرك بشكل متزايد الإمكانيات الجديدة والقوية التي توفرها الإذاعة لتشكيل وعي وسلوك المجتمعات المحلية عبر برامج الأخبار والتعليم والترفيه.
في العشرينيات كانت بضعة حكومات قد أدركت هذه الاحتمالات أو رأت أنها تستحق الصداع التقني. وبحلول الثلاثينيات حولت التطورات التقنية والإدراك المتزايد ل"قدرة الإذاعة" على الوصول إلى الناس والتأثير عليهم الحكومات إلى لاعبين متحمسين، جاهزين لتحويل الإذاعة إلى إداة لخدمة أهداف الدولة. لقد كانت الإذاعة الفلسطينية منتجاً من منتجات هذه الفترة، عندما كان الموظفون البيروقراطيون الحكوميون عبر العالم يسعون لتسخير قوة الإذاعة لتشكيل مواطنيهم بطرق معينة. في فلسطين، بدا أن الحكومة الانتدابية ترحب مبدئياً بمحطات الإذاعة المحلية، من خلال إصدار رخصة بث بموجة متوسطة لمندل أبراموفيتش عام 1932. قامت محطة أبراموفيتش، راديو تل أبيب، ببثها الأول في سوق الشرق المموَّل من الحكومة.(7) لكن حكومة الانتداب سرعان ما بدأت بخطط لتأسيس إذاعتها الخاصة. ترافقت هذه الخطط مع مبادرة دولية أوسع لتنظيف الموجات الأوروبية المزدحمة، والتي لم تترك لفلسطين سوى تردد بث واحد. لذا، سرعان ما ألغت حكومة الانتداب رخصة أبراموفتش، ورغم احتجاجاته فقد انتهى بث راديو تل أبيب عام 1935، عندما تكثف التخطيط لإذاعة فلسطين.
الحكم الدولي
تعود فكرة الحكم الدولي لإعلام الاتصالات إلى القرن التاسع عشر، عندما تم حل الخلافات حول آليات عمل التيليغراف (مثل لغة الاتصال والسرية والأسعار) عبر سلسلة من المؤتمرات الدولية. أنتجت هذه المؤتمرات أجساماً دولية حاكمة ذات سلطات لإدارة الصراعات والمعاقبة على الاختراقات.(8) وبداية من منتصف العشرينيات تم التعامل مع الإذاعة بنفس الطريقة. وللتعامل مع مشكلة الموجات الهوائية الأوروبية المزدحمة، التقى اتحاد الإذاعات العالمي في لوسيرن في أيار عام 1933. لقد زادت الشكاوي بخصوص تداخل البث منذ المؤتمر السابق الذي عقد في براغ عام 1929- وذلك بزيادة عدد ومدى بث المحطات الأوروبية، حيث أصبح عدد المحطات آنذاك يفوق أطوال الموجات المتوفرة، لذا أنتجت ظاهرة البث غير المقيد، والتي عملت بشكل جيد في الأيام الأولى للإذاعات، حالةً من الحرية للجميع، بثت فيها الإذاعات دون الأخذ بعين الاعتبار احتمالية أن تعطل أو تتداخل أو تغطي على غيرها من المحطات التي تستخدم نفس التردد. لقد حل مؤتمر لوسيرن مسألة التداخل من خلال تقديم أطوال موجية معينة لكل بلد، وبإعطاء أطوال موجية مشتركة لبلدان يحول بعدها عن بعضها دون حدوث التداخل. بالنسبة لفلسطين وباقي الشرق الأوسط، كان القرار الأهم بالنسبة لمؤتمر لوسيرن جغرافياً. لقد كان المقصود من المؤتمر التعامل مع قضايا تتعلق بالبث الأوروبي. لكن المؤتمر شمل فلسطين وسوريا ولبنان وتركيا وكل شمال أفريقيا فيما عرّفه بِ"المنطقة الأوروبية" لأنه- واعتماداً على قوة أجهزة البث وظروف الجو – فإن أية إذاعة ستبث ضمن هذه المنطقة فمن المرجح أن تُسمع في أي مكان ضمنها. بكلمات أخرى، لأن الإذاعة التي تبث من فلسطين يمكن أن تسبب تداخلاً إذا بثت على نفس الطول الموجي الخاص بأية إذاعة إيطالية أو أوروبية أخرى، فقد تم ضمُّ فلسطين ضمن المنطقة الأوروبية. (تم اعتبار الخليج العربي والعراق وشرق الأردن على أنها مناطق من غير المرجح أن يبدأ فيها بث إذاعي في ذلك الوقت، لذلك لم تتم مناقشتها أو تخصيص أطوال موجية لها).
لقد كان توسيع أوروبا لتشمل الشرق الأوسط تنازلاً خاصاً ومحدوداً تكنولوجياً، وليس إعلاناً عن المساواة. في الحقيقة لقد زاد ضم الشرق الأوسط الوضع سوءاً، لأنه زاد عدد الكيانات التي تقاتل للحصول على شرائح من نفس كعكة الأطوال الموجية. وأكثر من ذلك فقد وضع توزيع الأطوال الموجية حسب البلد المناطق الخاضعة للانتداب والمستعمرات في نفس الخطة مع المنتدبين عليهم: فرنسا وبريطانيا، مما يضمن لهم نفس الحق بطول موجي ومحطة إذاعة محلية، وفي نفس الوقت أوضحت قائمة المشاركين في المؤتمر من يمسك بزمام السلطة في تلك المناطق: فقد مثل فلسطين على سبيل المثال المدير العام لمكتب البريد التابع لحكومة الانتداب، والعقيد المقدم ويليام هيدسون.(9) بالمحصلة، أصبحت الأطوال الموجية أدوات للقوى الاستعمارية كبريطانيا وفرنسا لتستخدمها في حماية مصالحها الخاصة بالبث، كما يمكن فهم محطات الإذاعة كأدوات لتوسيع السيطرة الاستعمارية.
بينما طالب مسئولو الانتداب بأطوال موجية لفلسطين فقد بدأ الدعم لمحطة إذاعة محلية يُبنى في الداخل. لماذا دعم الفلسطينيون من خلفيات وانتماءات سياسية مختلفة فكرة المحطة الإذاعية؟ تفترض هذه المقالة أن هذا الأمر يعكس فهماً عامّاً لمحطات الإذاعة كرموز للسيادة –حيث أن المحطات الإذاعية في الثلاثينيات كانت يجب أن تؤخذ في عين الاعتبار كواحدة من "علامات الدولة" الخاصة بالقرن العشرين. لقد كانت مسألة تقييم الدول القومية وغيرها من الكيانات السياسية- المناطقية بناء على علامات الدولة منهجاً تحليلياً يستخدمه المؤرخون وعلماء السياسة والصحفيون وغيرهم. وكانت الإشارات التي استخدمت لفحص الدول الحديثة داخليةً بشكل عام، بما فيها اعتبارات من مثل: رئيس للدولة، ونشيد وطني، ونظام سياسي وظيفي فاعل عبر المنطقة، لغة وطنية أو أكثر، عملة وطنية ذات فعالية، حدود محصنة، وتحكم بالهجرة. لقد كان تأسيس محطة إذاعية في فلسطين في نفس الوقت إشارة واضحة للتقدم باتجاه الأهداف الانتدابية، والذي يمكن للحكومة الانتدابية أن تقدم عنه في تقريرها السنوي للجنة الانتدابات في عصبة الأمم، ويمكن في نفس الوقت للفلسطينيين أنفسهم استخدامه للمطالبة بحكم ذاتي أكبر أو حتّى بالاستقلال. وبينما نادراً ما صيغ الأمر بهكذا مصطلحات حادة، يمكن أن يخدم هذا التناقض كتذكيرٍ مفيدٍ فقط بمسألة مدى القوة التي تمتع بها البث الإذاعي – محتوىً ورمز - في هذه الفترة.
تأسيس محطة الإذاعة الفلسطينية
رغم أن الحكومة البريطانية الأم دعمت حق فلسطين بالحصول على طول موجيّ، فإنه لم يكن لديها دور نشيط في التخطيط لمحطة الإذاعة المتوقعة. لقد قاد مسئولو حكومة الانتداب إنشاء الإذاعة الفلسطينية. بعد مؤتمر لوسيرن، وضع مدير عام البريد هيدسون مقترحاً للإذاعة صاغ فيه عدداً من معالمه النهائية، وعلى سبيل المثال، أوصى أن تبث الإذاعة باللغات الرسمية الثلاث للانتداب - العربية والعبرية والإنجليزية- بلا استثناء، لكن مع توزيع الساعات تناسبياً على مجموعات السكان. بعد ذلك أسست الحكومة لجنة إذاعة ضمت في عضويتها هيدسون ومفوض منطقة القدس ميشيل (م. ف) أبكاريوس، ومدير التعليم هيمفري باومان، ومساعد وزير المالية ج. ي. ف. كامبل، لمراجعة مقترح هدسون وتقدير التكاليف اللازمة. بكلمات أخرى، كانت الإذاعة مدعومة من الحكومة منذ البداية، وشكل ملامحها مسئولون انتدابيون بريطانيون. لقد صور تقرير لجنة الإذاعة المقدم في كانون أول 1933 محطة إذاعة على نمط قريب من هيئة الإذاعة البريطانية: إذاعة غير ربحية، ممولة بالإعانات المالية الحكومية ورسوم الترخيص لمتلقي البث الإذاعي، مع برامج تهدف إلى تطوير وتسلية جمهور المستمعين. افترضت اللجنة وجود اهتمام جاهز بين سكان المدن، وبشكل خاص اليهود الأوروبيين والمواطنين البريطانيين المقيمين في فلسطين، وتوقعت اللجنة اهتماماً عربياً متصاعداً بالراديو نابعاً من انطلاق خدمة البث الإذاعي الحكومي المصري في أوائل عام 1934، وراديو الشرق في لبنان المخطط له. كما توقعت أن استماع سكان الريف للإذاعة سيزداد لأن إيصال الكهرباء جعل تشغيل أجهزة الراديو التي تعمل بالكهرباء ممكناً. ولتشجيع العرب على الاستماع للإذاعة أوصت اللجنة بأن تبث الإذاعة على الموجة المتوسطة، لأن أجهزة المذياع التي تعمل على الموجة المتوسطة أقل تكلفة من تلك التي تعمل على الموجة القصيرة. اقترح التقرير ساعة بث يومية بكل لغة من اللغات الثلاث، بحيث تكون الساعة العربية في بداية البث والإنجليزية في نهايته، وبحيث يبدأ البث في وقت متأخر من بعد الظهر إلى وقت المساء المبكر. وفي المساء المتأخر، سيقدِّم "البرنامج الدولي" ترفيهاً للجميع بغض النظر عن اللغة. ولتقليل تكاليف الإنتاج اقترحت اللجنة أخباراً مشتركة وبرامج ترفيهية، تشمل تسجيلات الحاكي (الغراموفون)، من هيئة الإذاعة البريطانية - لتجنب المزيد من البث المباشر المكلف. لقد وصفت اللجنة التطورات الحديثة في الموسيقى المسجلة كعامل حاسم في جعل أمور المحطة المالية مناسبة. "لقد أصبح نقل تسجيلات الحاكي متطوراً جداً بحيث لم يعد هناك فرق في الجودة عن الإنتاج المباشر،" كما قالت اللجنة. "لذلك فإن المواد الموسيقية المتعلقة بالأوركسترا والموسيقى الصوتية، وكل البرامج، تنتج الآن حقيقةً من تسجيلات الحاكي بشكل كبير،" وهو ما لاحظت اللجنة أنه "يمكن الحصول عليه جاهزاً ورخيصاً" من هيئة الإذاعة البريطانية ومصادر مشابهة. (يظهر هنا أن اللجنة كانت تعني الموسيقى والبرامج الأوروبية، حيث أن هيئة الإذاعة البريطانية لم تنتج بالعبرية أو العربية في بدايات الثلاثينيات.)(10) وبينما سيبدو الترفيه حتى المسجًل منه على أنه موضوع محبب فإن تقرير لجنة الإذاعة ختم بملاحظة رسمية. لقد كان عام 1933 عاماً هادئاً نسبياً في فلسطين، لكن اللجنة أكدت أن الإذاعة يجب ألا تفاقم التوترات الموجودة. أوضحت اللجنة، "يجب تجنب الآراء الجدلية ووجهات النظر المتحيزة، خاصة فيما يتعلق بالمواضيع السياسية والدينية"، محددة ما سيصبح سياسة قوامها تفضيل بث مواد التسلية، وتقليص نشرات الأخبار، ومنع النقاشات السياسية. وأكثر من ذلك، فقد توقعت اللجنة أن البث الإذاعي يمكن أن يلعب دوراً هاماً في رفع الروح المعنوية في المنطقة. أوضحت اللجنة أنه "يمكن القيام بالكثير لزيادة الاهتمامات ولإضافة بهجة للحياة، لمقاومة مظهر مرضي يبدو مزمناً في الشرق الأدنى". وبحسب أعضاء اللجنة فإن أهمية الإذاعة في فلسطين لا تكمن في قدرتها على تغطية الأخبار لكن في قدرتها على إضافة البهجة.(11) ربما إن أكثر مظهر مدهش في التقرير هو التوصية بالتقدم في الخطط الخاصة بالإذاعة، مع الأخذ بعين الاعتبار العدد القليل من المستمعين المستهدفين. لاحظ التقرير نفسه أنه تم إصدار 2313 ترخيص مذياع فقط في عام 1933، ورقم تقديري 3500 لأوائل عام 1935. من المفترض أن كل ترخيص يخدم أكثر من شخص واحد، وعدد التراخيص في ازدياد. لكن ما تزال نسبة جمهور المستمعين نسبة ضئيلة من عدد السكان، والذي كان يقدر بأنه يفوق المليون عام 1931.(12) بالنسبة لمعظم الفلسطينيين كان الاستماع إلى الإذاعة في هذا الوقت أمراً يحدث في المناسبات إذا لم يكن حتى أمراً نادراً، وما يزال بعيداً عن التحول إلى ممارسة معتادة أو منتظمة. لقد خططت إذاعة فلسطين لجعل المذياع جزءاً أكثر أهمية في حياة الناس.
اهتمام الصحافة
وصلت أخبار الإذاعة المقترحة إلى معظم الفلسطينيين بعد عدة أشهر من تقرير لجنة الإذاعة، وقد قابلت استقبالاً متحمساً عام 1934 في صحيفة بالستاين بوست التي يملكها يهود وتنطق باللغة الإنجليزية، بينما كان التجاوب مع الموضوع في الصحافة العربية أبطأ. كان مقر الصحيفة العربية الرئيسية في ذلك الوقت، فلسطين، في يافا، وربما كانت أقل تركيزاً على ما قد بدا وقتها كواحد من مبادرات الحكومة العديدة الصغيرة. أما صحيفة الدفاع التي ستصبح مع الوقت الصحيفة العربية الأكثر توزيعاً في فلسطين، فقد بدأت فقط في النشر في نيسان 1934، وعانت من عدد من تحديات البدايات مما قد يكون قد جعلها أقل تركيزاً على مشاريع الحكومة الجديدة. لقد جمّل رئيس تحرير بالستاين بوست وبحماس عاطفي خطة حكومة الانتداب بإنشاء محطة الإذاعة رغم كونه ناقداً لهذه الحكومة غالباً. "إن حكومة فلسطين من خلال إعلانها إنشاءها المبكر لخدمة الإذاعة فإنها تقدم للبلاد ما قد يكون نعمة حقيقية ... من خلال تقديم هذا الأمر اللطيف والحديث جداً، فإن الإدارة تستحق الشكر من الجمهور."(13) لقد امتدح المقال قدرة الإذاعة على جلب الأخبار والتسلية من جميع أنحاء العالم، والوصول إلى سكان الريف والمدن على حدٍ سواء. في نهايات عام 1934، نشرت بالستاين بوست أولى حلقات سلسلة من ثلاثة أجزاء تقيّم بنية وتنظيم وبرامج الإذاعة الجديدة. (بدأت الصحف العربية تتحدث عن الإذاعة بمقالات أصغر، رغم أن الإعلانات المتعددة لأجهزة المذياع تظهر بوضوح أن الناشرين كانوا يدركون اهتمام قرائهم بالإذاعة). كتب عضو التحرير ي. د. جويتين مقالته الأولى من السلسلة بعنوان "هذا نداء القدس"، مركزاً على اللغة ومقترحاً على الإذاعة بث دروس لغة عربية بالعبرية وبالعكس، ومثنياً على قدرتها على تعزيز نمط رسمي وحديث من كلا اللغتين.(14) أما في مقالته الثاني، وكانت تحت عنوان "تعبير حر عن الرأي"، فقد طلب بأن تصبح إذاعة فلسطين كياناً مستقلاً مثل هيئة الإذاعة البريطانية، لا أن تبقى دائرة فرعية تابعة لمكتب البريد. لقد دافع جويتين عن حرية التعبير، مع وضع قيود على لغة التحريض وليس على الآراء التي يتم التعبير عنها. وطلب من الإذاعة أن "تبني صورة لفلسطين أكبر من فلسطين يهودية أو فلسطين عربية،" يحتوي فيها كل مجتمع المجتمع الآخر، ويتصور فيها أن تكون الإذاعة عامل تفتيت لا تعزيز للفصل بين المجتمعين، وهو الأمر الذي كانت تسهله دوائر الانتداب الأخرى.(15) أكد القسم الثالث من كلام جويتين، وكان بعنوان "محطة إذاعة مدارة جيداً: موسيقى ودراما وتسلية"، على أهمية برامج التسلية، وأشاد بالموسيقى الكلاسيكية اليهودية المحلية، وبالمسرح وفرق موسيقى القاعات، كما شجع الاستعانة بمهارات محلية من الفرق العربية. لقد أيد استخدام الإذاعة للتسلية أكثر منه للأهداف التربوية ملاحظاً أن المستمعين قد يغلقون أجهزة المذياع خاصتهم أو يحولون مؤشراتها عن إذاعة فلسطين عندما تتحول إلى المواضيع التعليمية(16) وبينما كانت رموز عامة مثل جويتين تعبر عن رؤيتها بخصوص الإذاعة، فقد استمرت التحضيرات الحكومية- ولا يوجد دليل كبير على دمج هذه المقترحات في رؤيتهم للإذاعة. مع منتصف عام 1935 كانت التحضيرات جارية بشكل جيد. في شهر تموز أصدرت الحكومة بياناً يصف عملية إنشاء الإذاعة ويحدد برامجها. ستبث الإذاعة لمدة خمس ساعات كل مساء وستكون برامجها بالعربية والإنجليزية والعبرية، وستقدم برامج التسلية التي تهدف للفائدة العامة وهي برامج وتسجيلات حاكي وإنتاجات محلية. أوضح البيان افتراض الانتداب الرسمي بأن المجتمعات ستتبع اللغات: فالعرب سيستمعون للقسم العربي واليهود سيستمعون للقسم العبري وسيستمتع الجميع بالموسيقى الكلاسيكية الخفيفة. ومع غياب الاحتجاج العام، بدا أن المجتمعات الفلسطينية قد قبلت الربط بين المجتمع واللغة وساعات الاستماع. لقد كان هذا واحداً من أكثر الآثار ديمومة للإذاعة على فلسطين الانتدابية: استخدام اللغة لتعزيز فكرة مجتمعين منفصلين بدل تشجيع تطوير مجتمعين متداخلين ومتواصلين. اختتم البيان بفقرة حول "مكبرات صوت للقرى" مما يشير إلى الأهمية التي أولتها الحكومة للبث الإذاعي في الريف وقلقها بخصوص سكان الريف في فلسطين: "إن سعادة المندوب السامي حريص بشكل خاص على أن يستمتع سكان الريف بفوائد الإذاعة تماماً مثل سكان المدن، لذلك فهو يرتب من أجل التركيب التجريبي لمكبرات صوت ذات تصميم خاص في مائة قرية ومستوطنة. ستحتوي برامج إذاعة القدس على أصناف من البرامج (أحاديث قصيرة حول الزراعة والتعليم والصحة وغيرها) يقصد منها أن تكون ذات قيمة عملية للمستمعين القرويين(17)من خلال تخصيص الأمور العملية للمستمعين الريفيين والأمور الترفيهية للمدنيين، تخيل المسئولون المستمعين المدنيين والريفيين كمجتمعين منفصلين. تم تقسيم جمهور المستمعين في فلسطين أولاً من خلال اللغة وثانياً من خلال الموقع. ومثل التقسيم اللغوي فقد عكس التقسيم على أساس المنطقة افتراضات أخرى: غالباً ما تم وصف المستمعين "الريفيين" كفلاحين وغير متعلمين وعرب. لقد وصفوا في مراسلات المسئولين الانتدابيين ومسئولي الحكومة الأم كمصدر محتمل للخطر إذا لم يداروا ويعلموا ويمدنوا بعناية- وهي مهمة يمكن لإذاعة فلسطين أن تتولاها الآن. وفي الأثناء ظهر أن الاهتمام العام بالاستماع للمذياع يزداد، مع إصدار 5900 ترخيص مذياع في المنطقة بحلول منتصف عام 1935. وكلما زاد عدد الفلسطينيين الذين يمتلكون أجهزة المذياع زاد الجمهور المتوقع الذي يمكن أن يصبح لإذاعة فلسطين. وكما لاحظت بالستاين بوست فإن هذا يساوي 5,7 مذياعاً لكل ألف مواطن (جهاز لكل 175 من السكان تقريباً) وذلك على قدم المساواة مع "هونغ كونغ وأندونيسيا وإسبانيا" وأقل من معدل بريطانيا العظمى 147,45 لكل ألف ولكن أكثر بكثير من معدل مصر 0,73 لكل ألف.(18) بدأت خدمة الإذاعة المصرية بثها مؤخراً بشجاعة، لقد أعطى نجاحها في جذب المستمعين رصيداً لفكرة أن إذاعة فلسطين يمكن أن تنجح. وفي نفس الوقت فقد ذكّر راديو القاهرة مسئولي الانتداب بأن أجهزة المذياع الخاصة بالفلسطينيين تلتقط عدداً من محطات الإذاعة ليختاروا بينها- والتي يمكن أن يكون بعضها يبث أخباراً وآراءً معادية للمصالح البريطانية. فالاستماع إلى إذاعة فلسطين سيعني عدم الاستماع إلى محطة تبث وجهات نظر ألمانية أو إيطالية أو آراء أخرى معادية.
صلات هيئة الإذاعة البريطانية
عززت أنماط التوظيف في إذاعة فلسطين نكهتها البريطانية. فقد أعير العديد من إداريي الهيئة إلى فلسطين لمراقبة الإذاعة في مراحلها الأولى. وكان أبرزهم ر. أ. "طوني" ريندال، مدير برامج الهيئة في الأقاليم الغربية، والذي تمت تسميته مديراً لإذاعة فلسطين في أيلول 1935.(19) كما زودت هيئة الإذاعة البريطانية الإذاعة بطاقم إداري خلال سنوات نهاية الثلاثينيات، ولم يكن قبل بداية الأربعينيات عندما تم اختيار مدير الإذاعة من داخل البلاد. أعقب ريندال كمدير ستيفين فري قادماً من البث الخارجي لهيئة الإذاعة البريطانية، وتم استبداله بنائب قائد الأوركسترا الشمالية لهيئة الإذاعة البريطانية عام 1938. (خدم مكنير حتى أكتوبر عام 1941، عندما غيرت قيود فترة الحرب البنية الإدارية للإذاعة.)(20) معظم رجال هيئة الإذاعة البريطانية هؤلاء كانوا صغيري السن نسبياً ولم يصلوا ذروة عملهم بعد، وربما كان القيام بمهمة في فلسطين أمراً أكثر جاذبية لهم. وكونهم كانوا مبتعثين لا موظفين بشكل تام يشير إلى درجة انخراط هيئة الإذاعة البريطانية في الإذاعة الجديدة: انخراط غير مباشر لكنه مهم. لقد جلبت الطواقم المبتعثة الإحساس بهيئة الإذاعة البريطانية إلى فلسطين، بينما كان أفراد الطاقم الإداري لإذاعة فلسطين يرسلون أيضاً إلى هيئة الإذاعة البريطانية للتدريب خلا إجازات الصيف.(21)لكنه من غير الواضح من خلال وثائق الإذاعة الموجودة أن موظفي الهيئة استطاعوا تنفيذ رؤيتهم الخاصة بخصوص الإذاعة. تظهر وثائق حكومة الانتداب حالة عامة من عدم الرضا عن فري ومكنير بشكل خاص وهو أمر تؤيده نغمة النقد السائدة التي تتحدث بها الصحف المحلية عندما يتعلق الأمر بالإذاعة. تمتعت هيئة الإذاعة البريطانية في الثلاثينيات بدرجة أكبر بكثير من الاستقلالية تجاه الحكومة البريطانية مما تمتعت به إذاعة فلسطين تجاه حكومة الانتداب، مما قد يكون قد جعل الوضع أصعب بالنسبة لطاقم هيئة الإذاعة البريطانية العامل في إذاعة فلسطين.
أشغل الموظفون البريطانيون المناصب الإدارية العليا في الإذاعة، ولم يكن هناك أي نقاش حول إشغال فلسطينيين بأية مؤهلات لمنصب المدير أو نائب المدير. لكن الإذاعة أوجدت العديد من الوظائف المحلية من مستوى رئيس قسم وأدنى. تظهر الأدلة من الذكريات والصحف أن اختيار فلسطينيين محليين كرؤساء الأقسام العربية والعبرية وقسم الموسيقى كانت عملية دقيقة. لقد أراد مسئولو حكومة الانتداب رؤساء أقسام ذوي مكانة كافية لإعطاء مصداقية لمحطة الإذاعة، وفي نفس الوقت تخوف المسئولون من أن الشخصيات المعروفة ستستخدم الإذاعة لأهدافها الخاصة. في شهر كانون أول تم توظيف أليعازر لوبراني وكارل سالومون القادمين حديثاً من ألمانيا كمديرين للقسم العبري وقسم الموسيقى على التوالي(22)، كما عيّن الشاعر المشهور إبراهيم طوقان رئيساً للقسم العربي في منتصف شباط 1936.(23) وكان لوبراني قد عمل كمحرر في صحيفة دافار العبرية، فيما كان سالومون رئيس أوركسترا محترماً جداً. فقط طوقان كانت لديه سمعة كداعية تحريض وطني، وكمعظم الفلسطينيين من جيله كان لديه سجل اعتقال.
الأيام الأولى للبث على الهواء
في البث الافتتاحي لإذاعة فلسطين في آذار 1936، ضم المندوب السامي واكهوب إلى خطابه تحذيراً آخر "لن تهتم إذاعة فلسطين بالسياسة،" وأوضح "إن هدفها الرئيسي سيكون نشر المعرفة والثقافة،" واستمر مضيفاً: "كما أستطيع طمأنتكم أن الدعاوي الدينية لن يتم تجاهلها أيضاً(24) وبينما ذكر واكهوب فقط مجموعتين –المزارعين ومحبي الموسيقى- في وصفه لمن يمكن أن يستفيدوا من برامج الإذاعة، فقد حدد هنا الملامح الأساسية لها: تجنب السياسة والتركيز على التربية والترفيه والرغبة المعتدلة لاحترام "دعاوي" الدين. لقد أثرت هذه الملامح على البرامج بطرق عديدة. ولنتكلم بشكل محدد، يتكون يوم البث من برامج متوازية، مقسمة حسب اللغة. يحتوي كل برنامج على نشرتي أخبار بالإضافة إلى الموسيقى والأعمال المسرحية والأحاديث التعليمية ("تاريخ الصحافة العربية المطبوعة" و"الثقافة الشعبية بين اليهود اليمنيين،" على سبيل المثال)، وساعات الأطفال وبرامج النساء وقراءات إنجيلية غير منتظمة. تستغرق معظم البرامج 15 أو 30 دقيقة، مع تقسيم البرامج حسب اللغة إلى مجموعات -على سبيل المثال برنامجان عربيان يليهما برنامجان عبريان. يستغرق القسم العربي معظم وقت البث على الهواء، أما البرنامج العبري فيستغرق أقل منه بقليل. أما القسم الإنجليزي فيستغرق تقريباً نصف الوقت المخصص للأقسام الأخرى. لقد شكل افتتاح إذاعة فلسطين تطوراً هائلاً لفلسطين. لكن توارت احتمالات جدل هائلة خلف كلمات الترحيب وخيالات التطوير. خلال أسابيع علقت الإذاعة في أزمة أكبر: بداية الثورة العربية التي استمرت ثلاث سنوات.
إذاعة فلسطين والإضراب العام
تصاعدت التوترات بين الفلسطينيين العرب والصهيونيين خلال عام 1935، مشكّلة حقل صراع ثنائي وثلاثي مع السلطات البريطانية. في منتصف نيسان 1936، كمن أتباع عز الدين القسام -وهو مقاتل سوري كاريزمي قتل في نهايات عام 1935 خلال تبادل لإطلاق النار مع جنود بريطانيين- لمجموعة من اليهود الفلسطينيين قرب طولكرم. في 19 نيسان اندلعت انتفاضات وطنية في يافا -15 ميلاً جنوبي طولكرم- ورغم المحاولات البريطانية لاحتوائها فقد انتشرت بسرعة، مع تشكّل لجان قيادة في يافا ومدن أخرى. في 24 نيسان دعت لجنة يافا إلى إضراب عام -إغلاق المحال التجارية والأعمال ومراقبة ذلك على صعيد الصناعات المختلفة، بهدف شل الاقتصاد الفلسطيني. ورغم أن الإضراب جذب معظم النخب الفلسطينية -طبقة القيادة التقليدية- فقد تحرك المفتي الأكبر الحاج أمين الحسيني على حين غرة وأسس اللجنة العربية العليا، مدعياً السيطرة على الثورة وموقعاً إياها في شرك العديد من صراعات القوى الفصائلية- وهي صراعات شكلت ملامح سياسة النخبة الفلسطينية. كان الإضراب العام بدايةً لثلاث سنوات من الانتفاضات و"الاضطرابات" في المناطق المدنية والريفية على حد سواء- والتي عرفت في التاريخ بالثورة العربية.(25) استمر الإضراب ذاته حتى منتصف أكتوبر، حيث انتهى من خلال الدمج ما بين القمع العسكري البريطاني الهائل ودبلوماسية الوفود السعودية والمصرية والعراقية والأردنية واليمنية.(26) لكن ومع تراجع حكومة الانتداب عن الوعود التي تم التفاوض عليها ودفع الفلسطينيين العاديين للقيادة نحو التركيز على البريطانيين أكثر منه على الصهاينة، فقد أصبحت المناطق غير المدنية في فلسطين مكاناً للثورة العامة المسلحة. ومع إيذاء الإضراب والمقاطعة للاقتصاد العربي، وحرب العصابات عبر فلسطين والعداء الكبير الذي عبر عنه الفلسطينيون من اليهود والعرب تجاه حكومة الانتداب، فلم يكن الوقت إيجابياً لمحطة إذاعة حكومية لتبدأ بالبث.
أو هل كان الوقت مناسباً لها؟ اجتمعت لجنة الانتدابات الدائمة من أجل القيام بفحصها السنوي لتقارير إنجازات الانتداب في شهر أيار 1936 بعد شهر من بدء الإضراب.(27) وخلال هذا الاجتماع، جادل المندوب السامي بأن إذاعة فلسطين كانت تقدم خدمة عامة حيوية وتلقى التقدير من خلال تقديم معلومات موثوقة خلال الفوضى. وقال: "مع بداية الاضطرابات تم استخدام الإذاعة بشكل منتظم لبث كل البيانات الرسمية، وقالت كل قطاعات السكان أنها عبرت عن تقديرها لهذه الوسيلة لبث البيانات الرسمية".(28)وبالعودة إلى فلسطين، امتدحت لجنة من حكومة الانتداب في أكتوبر إذاعة فلسطين ووصفتها بأنها توفر منافع سياسية في وقت الأزمات. وأوضح التقرير: "لقد أصبحت القيمة السياسية لإذاعة مؤسسة جيداً بالنسبة للحكومة واضحةً بشكل واسع في وقت الأزمات تماماً كما في وقت التطور الطبيعي".(29) يمكن للبث الإذاعي الوصول للناس في الوقت الذي يمنع فيه إغلاق الطرق أو حالة حرب العصابات وصول الصحف والبيانات. وعندما يصلهم بث الإذاعة فإنه يقدم لهم وجهة نظر الحكومة. لقد عكس بث الإذاعة خلال الإضراب العام إمكانيات وحدود الإذاعة الحكومية في هذا الوضع. فمن جهة أولى فقد قيدت حكومة الانتداب بشدة بث نشرات الأخبار خلال هذه الفترة، وانتقد مسئولو الانتداب خدمة هيئة الإذاعة البريطانية باللغة العربية لبثها أخباراً حول العنف وممارسات الحكومة الانتقامية. ومن جهة أخرى، حاولت الحكومة استخدام الإذاعة من أجل الوصول إلى المستمعين وتهدئة الأوضاع. وتم بث عدة خطابات للمندوب السامي واكهوب ذاته عام 1936. وصفت بالستاين بوست خطابه الذي بث في تموز بأنه "موجه بشكل واضح لسكان القرى" مع ترجمة عربية، كما لاحظت أنه "رغم كونه يخاطب الفلاحين، ويخاطبهم من فوق رؤوس قيادة فقدت طريقها، فلم يكن في خطابه أي تسامح."(30) لكن في مخاطبته "للفلاحين" العرب أشار واكهوب إلى أن حكومة الانتداب تخلت عن إمكانية التوصل إلى اتفاق مع القيادة الفلسطينية. لقد استخدم واكهوب إذاعة فلسطين سابقاً لمخاطبة الفلاحين، أما الآن وكما تقول الصحيفة، فإنه "يحاول ترجمة الكارثة إلى مصطلحات ستجلب الخراب إلى بيوتهم،" ذاكراً الضرائب المرتفعة وخراب المحاصيل.(31) وكما ذكر خلال افتتاح الإذاعة فقد استمر واكهوب آملاً أن الإذاعة يمكن تؤثر على السكان العرب الفلسطينيين في الريف.
خلاصة
يظهر أن دور خطابات واكهوب في إقناع سكان الريف الفلسطينيين بإلقاء أسلحتهم كان قليلاً، وأن ما أقنعهم بذلك هو ثلاث سنوات القمع العسكري البريطاني الشديد والمتزايد. لكن الإضراب العام شكل لحظة حاسمة بالنسبة للتاريخ المبكر للإذاعة الفلسطينية. كان يمكن للإذاعة أن تصبح في خارج السياق أو أن تتعرض ميزانيتها لإعادة التخصيص بسبب التدريبات العسكرية. وبدلاً من ذلك، استمرت بالبث رغم التحديات العديدة- اللوجستية والتقنية والسياسية وغيرها. سمح استمرار الثورة العربية للإذاعة بأن تصبح مؤسسة ذات تأثير حاسم وبوتفة تنصهر فيها الأفكار والهوية الوطنية والثقافية والانتماءات الدينية والاختلافات الريفية- الحضرية. استمرت قصة إذاعة فلسطين خلال فترة نهاية الانتداب، لكن أهميتها لم تقدر بشكل كافً في الدراسات التالية. وكمحطة إذاعة تابعة لحكومة الانتداب كانت قصة الإذاعة هي قصة مؤسسة شبه استعمارية. لكنها أيضاً قصة إذاعة أنتج بثها في فلسطين الانتدابية منظومة هامة من الآثار الاجتماعية. لقد أثرت هذه الآثار على تطور المجتمع العربي داخلياً وفي علاقاته مع دولة الانتداب والمجتمع الصهيوني. إن إعطاء المزيد من الانتباه للإذاعة يساعد على إعادة تشكيل الرواية الخاصة بالانتداب على فلسطين، ويفتح نقاشاً حول الحكم السياسي والهوية الثقافية والممارسة الدينية وعلاقات النوع الاجتماعي في سياق أقوى وسيلة إعلام جماهيري في فترة ما بين الحربين العالميتين.
[ترجمة علي موسى. يعاد نشره ضمن اتقاقية شراكة وتعاون بين جدلية وحوليات القدس ]
[1] نشر النص الإنجليزي من هذه المقالة في مجلة Jerusalem Quarterly العدد 50، صيف 2012 ص. 6-22.
[2] أستاذة مساعدة في قسم الدراسات الدينية في جامعة دنفر بالولايات المتحدة.
[3] "Palestine Broadcasting Begun", Palestine Post, March 31, 1936, p. 8.
كل الاقتباسات التالية من خطاب واكهوب مأخوذة من هذا المصدر.
[4] أعطى الاتحاد الدولي للإذاعات (Union Internationale de la Radiodiffusion ) ومقره بيرن الترددات، وقد عقد عدة مؤتمرات منتظمة في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين. راجع وثائق
de la conférence européenne des radio communications Lucerne (Berne: Bureau international de l’Union télégraphique, 1933).
[5] استثنى هذا الانتقال نحو الإذاعات التي تملكها الدولة بشكل كبير الولايات المتحدة، التي تطورت فيها سياسات البث الإذاعي عبر مسار مختلف. لكن كندا ودول أمريكا اللاتينية طورت أنظمة إذاعة مكثفة ومتجذرة بعمق. راجع على سبيل المثال:
Joy Elizabeth Hayes’ Radio Nation: Communication, Popular Culture, and Nationalism in Mexico: 1920- 1950 (Tucson: University of Arizona Press, 2000).
[6] شهدت العشرينيات إنشاء محطات الإذاعة الصغيرة التي يديرها رجل واحد في كل أنحاء العالم وليس فقط في أوروبا والولايات المتحدة. وكان معظمها يبث التسجيلات الموسيقية أو الأخبار والتعليقات التي يقدمها مشغِّلوها، مع ساعات بث محدودة. وبينما كان عددها كبيراً فقد كانت غالباً محدودة العمر. فمن أكثر من مائة إذاعة هواة تعمل في مصر خلال العشرينيات مثلاً، فقد توقف معظمها عن البث بحلول عام 1930، مفسحةً المجال للإذاعة المصرية الرسمية لتبدأ البث عام 1934. راجع:
Douglas Boyd, Egyptian Radio: Tool of Political and National Development (Lexington, KY: Association for Education in Journalism, 1977), p. 3.
[7] حسب ديريك بينسيلي، فقد حصل أبراموفيتش على ترخيص إذاعته بعد محاولات استمرت ثماني سنوات (1926-1934) حيث كانت الحكومة تتجاهل أو ترفض طلبه.
Derek Penslar, “transmitting Jewish Culture: Radio in Israel,” Jewish Social Studies 10.1 (2003): 1-29.
لقد اصطدم المجتمع الصهيوني في فلسطين مع حكومة الانتداب البريطانية عبر سنوات الانتداب حول موضوع البث عبر موجة قصيرة موجهة إلى المجتمعات اليهودية في أوروبا، والتي أمل القادة الصهاينة –وخافت الحكومة- أن تجذب أعداداً أكبر من المهاجرين اليهود.
[8] بالنسبة لتأثير التيليغراف على الإمبراطورية العثمانية راجع:
Roderic Davison, “the Effect of the Telegraph on the Conduct of Ottoman Foreign Relations,” in Decision-Making and Change in the Ottoman Empire, ed. Ceasar Farah (Kirkville, Mo: Thomas Jefferson University Press at Northeast Missouri State University, 1993), and Eric Rogan, “instant Communication: the impact of telegraph Communications at the Syrian Periphery,” in The Syrian Land: Processes of Integration and Fragmentation: Bila¯d al-Sha¯m from the 18th to the 20th century, ed. Thomas Philipp and Birgit Schabler (Stuttgart: F. Steiner, 1998).
لمعرفة تأثير التليغراف على السياسة الأوروبية الخارجية أنظر:
Stephen Kern, The Culture of Time and Space, 1880-1918 (Cambridge: Harvard University Press, 1986).
[9] William Hudson to the President of the Radio communications Conference, May 26, 1933. Documents de la conférence européenne des radio communications Lucerne, Mai-Juin 1933, p. 355.
[10] Report of Broadcasting Committee, December 23, 1933, Co/733/266/7.
[11] Report of Broadcasting Committee, December 23, 1933, Co/733/266/7.
[12] كان العدد الكلي للسكان في إحصاء عام 1931 هو 1,003,314. راجع:
Edward Hagopian and A. B. Zahlan, “Palestine’s Arab Population: the Demography of the Palestinians,” Journal of Palestine Studies 3, no. 4 (Summer 1974), 32- 73.
[13] “Harnessing the air,” Palestine Post, July 5, 1934, 2.
تعيد بالستاين بوست فكرة الإذاعة الفلسطينية بالأصل إلى سي. ف. ستريكلاند و"صحفي يهودي" لم يذكر اسمه، كانا قد طرحا الفكرة عام 1925.
[14] E. David Goitein, “this is Jerusalem Calling: Desiderata for a Palestine Broadcasting Corporation,” Palestine Post, December 28, 1934, 5.
[15] E. David Goitein, “Free Expression of Opinion: Desiderata for a Palestine Broadcasting Corporation,” Palestine Post, January 6, 1935, 3.
[16] E. David Gotein, “a Well-Run Broadcasting Station: Music, Drama, and Entertainment,” Palestine Post, January 9, 1935, 3.
[17] “Broadcasting Station opening in November: Government announces Program Schedule,” communiqué published in the Palestine Post, July 7, 1935, 1.
[18] “Palestine is on the air: What the New Broadcasting Service Will Do,” Palestine Post, July 12, 1935, 3.
إذا أخذنا بعين الاعتبار عدد السكان الأكبر بكثير في مصر (14,5 مليون تقريباً) فمازالت النسبة المتدنية يمكن ترجمتها إلى حوالي 10,660 من رخص متلقي خدمة البث الإذاعي،
[19] راجع:
“BBC officer for Palestine/adviser on Program Broadcasts,” Palestine Post, September 4, 1935, 1.
كان المقصود من ابتعاث ريندل أن يكون مؤقتاً.
[20] راجع:
“Mr. C.B. McNair, PBS Director,” Palestine Post, January 19, 1939, 6, and Colonial Office internal memo dated 6.16.41, Co 733/442/2.
[21] كما أرسل أيضاً موظفو القسم العربي إلى القاهرة بغرض التدريب. سافر عزمي النشاشيبي إلى القاهرة لدراسة إدارة محطة الإذاعة بعد الحرب العالمية الثانية.
[22] “Sub-Directors Chosen for Radio Station,” Palestine Post, December 24, 1935, 5.
[23] “Appointment to the Broadcasting Service,” Palestine Post, February 14, 1936, 8.
[24] “‘Jerusalem Calling’ in English, Arabic, Hebrew: Palestine Broadcasting Began: High Commissioner outlines aims of PBS,” Palestine Post, March 31, 1936, 1
كما تحدثت فلسطين أيضاً باستحسان عن البث الافتتاحي للإذاعة لكن مقالها المختصر ركز بشكل حصري تقريباً على البث العربي.
[25] لدراسة أنثروبولوجية رصينة لهذه الحقبة ومبنية على التاريخ الشفوي راجع:
Ted Swedenburg, Memories of Revolt: the 1936- 1939 Rebellion and the Palestinian National Past (Fayetteville: University of Arkansas Press, 2003).
حول تحليل للأثر طويل الأمد للإضراب العام والثورة على الحركة الوطنية الفلسطينية راجع:
Rashid Khalidi, The Iron Cage: The Story of the Palestinian Struggle for Statehood (Boston: Beacon Press, 2006).
[26] راجع على سبيل المثال: "حالة فلسطين على الراديو: وساطة الملوك العرب والقانون العسكري"، جريدة فلسطين 1 تشرين الأول 1936، ص. 1. لقد أنهت المفاوضات الإضراب العام، الأمر الذي سهل انتشار الانتفاضات لاحقاً في الريف.
[27] كانت لجنة الانتدابات الدائمة هي الهيئة المسئولة في عصبة الأمم عن الإشراف على التقدم في كل مناطق الانتداب، وهو أمر قامت به بشكل أساسي من خلال الطلب من قوى الانتداب تقديم تقارير سنوية والمشاركة في لقاءات مراجعة سنوية.
[28] League of Nations Permanent Mandates Commission Minutes of the 29th Session, Geneva, May 27 - June 12, 1936, Report of the Commission to the Council, League of Nations Publications VI. A, Mandates 1936, p. 62.
[29] Report of the Committee on the Development of the Palestine Broadcasting Service, Government of Palestine, October 20, 1936, p. 3. The iSa holds a copy of this report in its PPi (Palestine Publications index) files (no number).
[30] “Man to Man,” Palestine Post, July 6, 1936, 6.
[31] “Man to Man,” Palestine Post, July 6, 1936, 6.